الأرگيلة… ” حكايات من بلدي”
أنشئت مقهى تركي مراد في نهاية أربعينيات القرن الماضي على شارع رئيسي لاتبعد إلاّ قليلاً إلى الغرب عن سوق المياذين المقبي واجهتها لاتقل عن ثلاثين متراً لكنَّ عرضها لايتجاوز العشرة أمتار، لها رصيف عريض أغلب طاولات المقهى تنقل للرصيف ليلاً للاستمتاع بعذوبة هواء الربيع العليل ونسائم الصَيف الناعمة ليلاً أما نهارات الشتاء المشمسة يمتلئ الرصيف نهاراً لتأخذ الزبائن نصيباً من أشعة الشمس الدافئة.
هواة لعب الشدة وطاولة الزهر لايغادرون داخل المقهى!… يتحملون لسعة البرد وحرارة الصيف همّهم الفوز والانتصار على منافسيهم.
أيام الشتاء، وبرده القارس جميع الزبائن داخل المقهى، يتحلقون حول مدافئ كبيرة تنشر حرارتها في فضاء المقهى الواسع. أغلب زبائن المقهى من كبار السن وشخصيات لها مكانة اجتماعية في بلدهم، يقضون أوقات الضحى فيها.
“سعيدالكاتب” أحد الزبائن الدائمين يتمتع بشخصية فريدة مميزة؟!… ومن القلائل الذين يرتدون طربوشاً خمري اللون وبدلة قاتمة شتاءً، وبيضاءَ صيفاً ذلك الزي الذي انقرض في تلك المدينة النائية. يحب “سعيد الكاتب” العزلة والجلوس وحيداً في تلك المقهى.
عند قدومه يَستقلُّ طاولة ينفرد بها وحيداً وكرسيان، واحد لجلوسه وآخر لطروبشه وجاكيته. شتاءً يفضِّل أقرب طاولة من المدفئة، يطلب كأس شاي وأركيلة يشرف على تنظيفها وتجهيزها حاملاً خرطوماً طويلاً خاصاً به يجلبه معه في حقيبة صغيرة اعتاد حملها، يضع الأرگيلة إلى جانبه الأيمن للخلف قليلاً ليُبعد عنه لهيب الجمر، ورائحة التنباك المحترق. لايغادر المقهى إلّا بعد انتهاء احتراق التنباك كاملاً ويستغرق ذلك أكثر من ساعة ونصف.
في ذروة العمل الصباحي، يحتاج صاحب المقهى لكراسي وطاولات لزبائن جدد غير دائمين لاتقائهم شِدَّة البرد في الخارج وشرب الشاي أو بعض المشروبات الساخنة.
المقهى مملوءة بالزبائن ماعادا طاولة الكاتب منفرداً بها، يغتاض تركي مراد من الكاتب الّذي يحرمه من أشخاص غرباء غير زبائنه لايجدون طاولة فارغة. يرجعون أدراجهم لمقهى القاضي المقابلة لمقهى المراد؟!…
“تركي مراد” أبو عواد شخصية محبوبة لغته العربية ركيكة لها لكنة خاصة تميزه عن أهل البلد. يحترم زبائنه، بَنى علاقة صداقة متينة معهم، يكّنون له محبَّة واحترام. من أصدقائه المقربين “سعيد النزهان أبو حمزة” ذات يوم شَكى أبو عواد من تصرف “سعيد الكاتب” وقال: إنت تعرف يا أبو حمزة صعوبة الحياة التي لا تطاق ومصاريف المقهى الباهضة من عمال، وضرائب، ومحروقات، وفواتيركهرباء وماء، وغيرها كثير؟؟… وكما ترى الكاتب اللَّه يسامحو يحجز مكاناً وطاولة بمفرده، وبجانب المدفئة، وحيداً وطيلة الوقت الذي يمضيه لايتجاوز طلبه كأس شاي وأرگيلة وهات جمرة يا ولد.
يابو حمزة أريدك تحكيلي معو وبدون أيِّ إزعاج أو تجريح، ابن بلد وعزيز على قلوبنا جميعاً ونعرف طباعه ومزاجه الخاص، ولا أريد أيَّ مشكلة أو إساءة اللَّه يرضى عليك، لكنَّها رزقة العيال يا أبو حمزة مثل ما تشوف صعوبة الحصول عليها. قال الحاج سعيد: إترك الأمر عليَّ وإنت خليك بعيداً عن الموضوع. آني عارف كلَّ زبونات المقهى متضايقين منو لسلوكه، وكبريائه وسوف أعالج الموضوع بحمكة.
ثلاث أيام بعد الحديث الذي حصل بين أبو حمزة، وأبو عواد استكمل معلومات كافية عن مواعيد قدومه ومغادرته المقهى، ومكان جلوسه المحبب، وكيفية تجهيز الأرگيلة وما يفضِّل من مكان يضعها فيه. يبدو أنها معلومات هامة بالنسبة لأبو حمزة؟!…
في شتاء يوم بارد أراد أبو حمزة تنفيذ العهد الذي قطعه على نفسه، جاء للمقهى مبكراً جلس مع صحبه كبار السنِّ كانوا يشكلون حلقة حول المدفأة، والبعض منشغل بلعب طاولة الزهر. استغربوا قدومه مبكِّراً، على غير عادته!!… رحبوا به قال لهم: اليوم جيت مبكر شوي أنتظر قدوم “سعيد الكاتب” لألقنه درساً وأحرمه ارتياد المقاهي. هَبَّ الجميع عليه لايابو حمزة مانسمحلك أخونا وصاحبنا هذا طبعو من زمان. يرد عليهم قائلاً: أكيد هاي السوالف كلنا نعرفها لكن شوفة النفس ما تنراد، ويقطع رزق المسكين صاحب المقهى معيبة بحقو، وهوا صاحبي مثل ماهوا صاحبكم، وعيب عليَّ عراكه لكنّي أمازحه، وقد تكون مزحة من العيار الثقيل؟!… وراح أتحمل كلَّ كلام يبدر منو، وما أرد عليه وهذا وعد مني. وأريد منكم تكونوا معه وتصفوا لجانبو ومهما قسوتم عليَّ بالكلام أمري للّه أتحمل البهدلة وأي تصرف منكم أتَقَبلو.
جاء “سعيد الكاتب” مشدود القامة رافع الرأس صعد درجات المقهى بتؤدة وخيلاء، وجد طاولة لا أحد حولها في أحسن ركن يودُّ الجلوس فيه أغراه المكان، وكان فخ متفقاً عليه بين أبو حمزة وأبو عواد؟!… أسرع في خطاه قبل أن تُشغل الطاولة، وكعادته وضع طربوشه وجاكيته على كرسي وآخر وضع عليه الحقيبة بعد أن أخرج منها خرطوم أركيلة طويل، وكعادته ذهب لمكان الأراكيل لاختيار أرگيلة تليق بمقامه، والإشراف على تنظيفها، ودعك التنباك وتجهيزها بشكل جيد. عاد لمكانه، فتح الحقيبة وأخرج منها بعض الأوراق يقرأ ويهز رأسه وبإشارة من يده كأنَّه استغرب شيئاً خطأ في تلك الأوراق ظلَّ يقلب الصفحات، يقرأ ويكتب بأوراق أخرى حتى جاءته الأركيلة.
رَحَّبَ أبو عواد به!!… وضع الأرگيلة بالمكان المعتاد، وضع الجمر فوقها جَرَّبها حتى بدأت تعمل بشكل جيد ويسحب النفس دون عناء.
وضع الكاتب رجله اليسرى فوق اليمنى منتشياً، مطروباً لقرقعة الماء وكأنها أنغاماً موسيقية محببة له!!… امتلأت المقهى بالزبائن وأبو حمزة يراقب بدقة الأركيلة، وكلَّ حركة من حركات الكاتب.
امتلأ القسم الفارغ من الزجاجة بدخان كثيف، وبدأ يسحب النَفس بسلاسة ويسر، وكلَّ فترة يغيّر من أصوات قرقعة الماء بسحبات يطيل النَفس أو يقصِّره، كأنَّه ينتقل من نغم لآخر في لوحة موسيقية صاخبة، وينفث دخان أرگيلته إلى أعلى، يصعد الدخان بشكل حلقات دائرية غير منتظمة ينظر إليها إلى أن يتبدد الدخان ويتلاشى، ويعيد الكرة من جديد.
اعتبر الحاج سعيد أنَّ فصول المشهد قد اكتملت وجاء دوره وكان جاهزاً حيث أنَّه جاء بكلابيته الفضفاضة وبدون سروال.
انسل بهدوء من جلسائه وخلف الكاتب اتخذ وضع القرفصاء، بسرعة سحب خرطوم الأرگيلة ووضعه بدبره وأرخى گلابيته لستر الجزّء الأسفل من جسده. بدأ الدخان يقلُّ في الزجاجة لكنَّه يمتلئ غازات نتنة ذات رائحة كريهة ازداد سحب الكاتب وبدأت رائحة النفس الكريهة تصعد إلى دماغ الكاتب، كرر ذلك مرات ومرات لكنَّ رائحة الجيف تزداد. يتأفف وينفث تلك الرائحة الكريهة التي سببت له صداعاً في الرأس وفقدان توازنه كسكران شرب جرعة كبيرة من الخمر على غير عادته. صفَّق بيديه ينادي تركي المراد ليوبِّخه لعمله الرديء، ويغيّر ذلك التنباك الذي اعتَقدَ أنه من نوع سيّء رخيص. لكنَّه سمع صوتاً خافتاً من ورائه كمواء قط جريح!!… يقول: إسحب ياسعيد… إسحب يا كاتب… إسحب من هذا الجيف المناسب لك. التفت الكاتب خلفه ورأى ذلك المنظر وإذ به يقفز من كرسيَّه كمن يقفز من قرصة عقرب. ويصيح بصوت عالٍ أدب سيز… يا قليل التربية… أدب سيز… لفت صوته انتباه كلَّ من في المقهى؟!… أوقفوا اللعب لمتابعة ذلك المشهد. ساد الجوُّ صمتاً. أنهى أبو حمزة دوره ببراعة ونجاح، لم يردّ عليه!!…
عاد مسرعاً لطاولة أصحابه وجلس كثعلبٍ مسكيناً خائفاً في جحره، وكأنَّه لم يفعل شيئاً. بدأت ضحكات جميع من في المقهى تتعالى وتزداد.
على عجل لملم الكاتب جميع حاجياته، لم يكمل متعته في ارتشاف كأس الشاي ونفَس الأرگيلة، وذهب مسرعاً على غير عادته منكساً رأسه محدوب الظهر يَشتمُ، يَسبُّ، ويدمدم بكلمات غير لائقة ولا أحد يردُّ عليه!!… لم يتمكن الكاتب مواجة الموقف لأنَّه شعر بأنَّ جميع جمهور المقهى متعاطف مع أبو حمزة ومهما فعل يكون هو الخاسر في المعركة، ازدادت ضحكاتهم، تعالت، إلى أن غاب عن الأنظار.
لم يعد يطيق جلوس المقاهي وخاصة مقهى تركي مراد. طويت تلك الصفحة في حينها لكنَّها لم تطوَ في ذاكرة الأجيال…